لعل أكبر مشكلة تواجه الدول النامية والمتخلفة هي تحديد الأسباب الحقيقية التي جعلتها تعيش على هوامش الحضارة وأطراف العالم المتقدم. وما ذلك إلا بسبب انخفاض درجة وعيها بنفسها وإمكاناتها والتحديات التي تواجهها، ومن هنا فإن حاجة الأمة ماسة إلى أن تضغط بإصبعها على موضع الداء، وأن تسعى إلى تحديد الأسباب الجوهرية التي أدت إلى الإصابة به، لتهتدي بالتالي إلى سبيل الشفاء.
في اعتقادي أن أفضل طريقة لتحديد أسباب التخلف تكمن في البحث عن القواسم المشتركة ونقاط الالتقاء لدى كل الشعوب التي تعيش على حواف العالم اليوم. وإذا وصلنا إلى هذا الحد من القول، فإنني أرى أن سمة (فقد الاهتمام) تعد من السمات العامة التي يمكن أن نشاهدها أينما تجولنا في أصقاع العالم النامي ـ ومنه بالطبع العالم الإسلامي ـ حيث يتجسد في سلوك الناس شعار (لا شيء يهم) وحيث ترى سيلاً لا ينقطع من المواقف التي تنم عن عدم الاكتراث واللامبالاة.
وفي المقابل فإن معظم الناس في العالم الصناعي يهتمون بالأشياء الصغيرة والصغيرة جدًا، وتستوقفهم التفاصيل الدقيقة، ويحاولون حساب كل شيء إلى حد الوسوسة. حين وقعت الأحداث الأخيرة في الولايات المتحدة، اندفع كثير من الناس هناك إلى شراء الكتب التي تتحدث عن الإسلام، وحضر بعضهم دورات في المراكز الإسلامية من أجل فهم الخلفية الثقافية لمن اتهموا بتلك الأحداث.
أما عندنا فمن أندر النادر أن ترى شخصًا يحاول سبر أغوار الثقافة الأمريكية أو معرفة طبيعة القوى التي توجه حركتها!ولذا فإن من الممكن القول أن درجة اتساع اهتمامات أي أمة هي معيار حقيقي لمدى تقدمها ومعاصرتها، والعكس صحيح.
ولعلي أستجلي في هذه القضية النقاط الثلاث الآتية:ـ إن الذي ينظر بعمق إلى المرامي البعيدة لآيات القرآن الكريم يجد أنه كان يقصد قصدًا إلى توسيع دائرة اهتمامات الإنسان المسلم على مستوى الزمان والمكان والأشياء، وذلك كي يساعده على القيام بمهمة الاستخلاف وبسط سلطانه على كل ما حوله. وفي هذا الإطار نجد أن القصص القرآني الذي تناول أخبار الأمم السالفة.
جعل المسلم ينخرط في السياق العام لتاريخ البشرية، ليبصر أيام الله ـ تعالى ـ فيها، وليبصر ملامح الخير والشر في سلوكاتها. وحديث القرآن الكريم عن المستقبل لم يكن يستهدف إعداد المسلم للنجاح الأخروي فحسب، وإنما استهدف توسيع مدى الرؤية لديه، وتخليصه من أسر اللحظة الراهنة الذي يقع فيه الإنسان الكَلّ المعطَّل. وحديث القرآن الكريم عن سلوك الحيوان (كالنحل والنمل مثلاً) وعن الجبال والأنهار والرياح والأفلاك... يثري ثقافة المسلم بالبيئة المحيطة، ويلفت نظره إلى وجوه التسخير في هذه الأشياء، فيقيم معها العلاقة التي تمكنه من الانتفاع بها.
ولايكتفي القرآن الكريم بذلك، بل يوسع دائرة اهتمامات المسلم ليتفاعل مع أحداث كبرى تجري في زمانه ـ مهما كان بعيدًا عن التأثر بها ـ كما في إخباره عن الصراع بين الروم والفرس، وإعلامه المسلمين بأن الغلبة ستكون للروم في بضع سنين. بل إن القرآن يصور لنا المشاهد المؤلمة التي تحكي معاناة بعض الناس (كما في قصة أصحاب الأخدود) ليجعل من الحزن وسيلة اتصال مع الناس والعالم. والسؤال الذي يفرض نفسه بعد هذا: لماذا يقرأ المسلمون القرآن الكريم كل يوم دون أن تشتعل لديهم جذوة الاهتمام؟!ـ كثير من الناس يملكون كل مقومات العظمة لكنهم لم يصبحوا عظماء لا لشيء إلا لأن اهتماماتهم تافهة. وكثير من الدول تملك ثروات هائلة، لكن خمول شعوبها، وتجرد أبنائها من السعي لأي هدف عظيم حرمها من التفاعل مع المعطيات الحديثة، وجعلها لا تنتفع بثرواتها المتعددة.
وقد كان (المال) في الماضي عماد الثراء الشخصي والأممي، كما كان عمود النجاح في النظام التجاري. وقد أخذ كل ذلك الآن في التغير، وأخذت تحل محله أشياء غير مادية، فثراء الأشخاص (وكذلك الأمم) لم يعد يقوم بالأرصدة والممتلكات، وإنما بمقدار ما يملكون من اهتمامات ودوافع وأفكار ومعلومات ونظم. وهذا ما يفسر لنا انتشار الجوع في بلدان عربية تملك الأراضي الخصبة والمياه الوفيرة، على حين تملك دولة (مثل لبنان) مساحة محدودة من الأراضي الزراعية، ومع هذا فهي تصدر الخضار والفاكهة إلى عدد من الدول!.ـ تسجل الدول الصناعية 97% من براءات الاختراع، وتترك لـ80% من سكان الأرض 3% فقط. وفي عام 1998 سجل اليهود في فلسطين 577 براءة اختراع لدى مكتب العلاقات التجارية الأمريكي، على حين سجل العرب 24 براءة اختراع فقط. وكثير من تلك البراءات تسجل من قبل (هواة) ومهتمين غير محترفين، لكنهم ينتمون إلى شعوب تسيطر عليها فضيلة الاهتمام. وأقرب مثال على هذا برامج الحاسب الآلي؛ إذ إن معظم البرامج الموجودة في الأسواق هي من تصميم هواة.
إن أمتنا لن تقف في مصاف الأمم ما لم يسهم كل واحد من أبنائها بشيء مفيد يضاف إلى رصيدها العام ليتشكل لدينا من قطرات الماء نهر أو جدول، ومن الحصى المتناثر تل أو جبل. وإن كثيرًا من القصور الذي نعانيه في هذا الشأن يعود إلى التربية الأسرية التي يتلقاها أبناؤنا، ثم تأتي المدارس لتزيد الطين بلة، فهي لا تهتم بتكوين الشخصية لطلابها، وليس عندها أي برامج أو تدريبات لبعث الاهتمام بالأشياء المفيدة أو الجديدة! وكان عليها عوضًا عن الأرقام الصماء التي تلقنها لطلابها عن إنتاجية العالم المتقدم أن تشرح لهم العوامل والأخلاقيات التي تقف خلف تلك الأرقام، من نحو سعة الاهتمام والمثابرة والجدية والتنظيم والتعاون... وأن تشرح لهم الدور الرائع الذي تؤديه المبادرة الفردية والهوايات المتعددة والمشروعات الصغيرة في إغناء حياة العالم المتقدم.
إن أمتنا لن تحصل على المقام الذي تستحقه ما لم يصبح الاهتمام بالميزات والتفاصيل والأشياء الصغيرة حركة مجتمع لا حركة صفوة.
د.عبد الكريم بن محمد الحسن بكار
في اعتقادي أن أفضل طريقة لتحديد أسباب التخلف تكمن في البحث عن القواسم المشتركة ونقاط الالتقاء لدى كل الشعوب التي تعيش على حواف العالم اليوم. وإذا وصلنا إلى هذا الحد من القول، فإنني أرى أن سمة (فقد الاهتمام) تعد من السمات العامة التي يمكن أن نشاهدها أينما تجولنا في أصقاع العالم النامي ـ ومنه بالطبع العالم الإسلامي ـ حيث يتجسد في سلوك الناس شعار (لا شيء يهم) وحيث ترى سيلاً لا ينقطع من المواقف التي تنم عن عدم الاكتراث واللامبالاة.
وفي المقابل فإن معظم الناس في العالم الصناعي يهتمون بالأشياء الصغيرة والصغيرة جدًا، وتستوقفهم التفاصيل الدقيقة، ويحاولون حساب كل شيء إلى حد الوسوسة. حين وقعت الأحداث الأخيرة في الولايات المتحدة، اندفع كثير من الناس هناك إلى شراء الكتب التي تتحدث عن الإسلام، وحضر بعضهم دورات في المراكز الإسلامية من أجل فهم الخلفية الثقافية لمن اتهموا بتلك الأحداث.
أما عندنا فمن أندر النادر أن ترى شخصًا يحاول سبر أغوار الثقافة الأمريكية أو معرفة طبيعة القوى التي توجه حركتها!ولذا فإن من الممكن القول أن درجة اتساع اهتمامات أي أمة هي معيار حقيقي لمدى تقدمها ومعاصرتها، والعكس صحيح.
ولعلي أستجلي في هذه القضية النقاط الثلاث الآتية:ـ إن الذي ينظر بعمق إلى المرامي البعيدة لآيات القرآن الكريم يجد أنه كان يقصد قصدًا إلى توسيع دائرة اهتمامات الإنسان المسلم على مستوى الزمان والمكان والأشياء، وذلك كي يساعده على القيام بمهمة الاستخلاف وبسط سلطانه على كل ما حوله. وفي هذا الإطار نجد أن القصص القرآني الذي تناول أخبار الأمم السالفة.
جعل المسلم ينخرط في السياق العام لتاريخ البشرية، ليبصر أيام الله ـ تعالى ـ فيها، وليبصر ملامح الخير والشر في سلوكاتها. وحديث القرآن الكريم عن المستقبل لم يكن يستهدف إعداد المسلم للنجاح الأخروي فحسب، وإنما استهدف توسيع مدى الرؤية لديه، وتخليصه من أسر اللحظة الراهنة الذي يقع فيه الإنسان الكَلّ المعطَّل. وحديث القرآن الكريم عن سلوك الحيوان (كالنحل والنمل مثلاً) وعن الجبال والأنهار والرياح والأفلاك... يثري ثقافة المسلم بالبيئة المحيطة، ويلفت نظره إلى وجوه التسخير في هذه الأشياء، فيقيم معها العلاقة التي تمكنه من الانتفاع بها.
ولايكتفي القرآن الكريم بذلك، بل يوسع دائرة اهتمامات المسلم ليتفاعل مع أحداث كبرى تجري في زمانه ـ مهما كان بعيدًا عن التأثر بها ـ كما في إخباره عن الصراع بين الروم والفرس، وإعلامه المسلمين بأن الغلبة ستكون للروم في بضع سنين. بل إن القرآن يصور لنا المشاهد المؤلمة التي تحكي معاناة بعض الناس (كما في قصة أصحاب الأخدود) ليجعل من الحزن وسيلة اتصال مع الناس والعالم. والسؤال الذي يفرض نفسه بعد هذا: لماذا يقرأ المسلمون القرآن الكريم كل يوم دون أن تشتعل لديهم جذوة الاهتمام؟!ـ كثير من الناس يملكون كل مقومات العظمة لكنهم لم يصبحوا عظماء لا لشيء إلا لأن اهتماماتهم تافهة. وكثير من الدول تملك ثروات هائلة، لكن خمول شعوبها، وتجرد أبنائها من السعي لأي هدف عظيم حرمها من التفاعل مع المعطيات الحديثة، وجعلها لا تنتفع بثرواتها المتعددة.
وقد كان (المال) في الماضي عماد الثراء الشخصي والأممي، كما كان عمود النجاح في النظام التجاري. وقد أخذ كل ذلك الآن في التغير، وأخذت تحل محله أشياء غير مادية، فثراء الأشخاص (وكذلك الأمم) لم يعد يقوم بالأرصدة والممتلكات، وإنما بمقدار ما يملكون من اهتمامات ودوافع وأفكار ومعلومات ونظم. وهذا ما يفسر لنا انتشار الجوع في بلدان عربية تملك الأراضي الخصبة والمياه الوفيرة، على حين تملك دولة (مثل لبنان) مساحة محدودة من الأراضي الزراعية، ومع هذا فهي تصدر الخضار والفاكهة إلى عدد من الدول!.ـ تسجل الدول الصناعية 97% من براءات الاختراع، وتترك لـ80% من سكان الأرض 3% فقط. وفي عام 1998 سجل اليهود في فلسطين 577 براءة اختراع لدى مكتب العلاقات التجارية الأمريكي، على حين سجل العرب 24 براءة اختراع فقط. وكثير من تلك البراءات تسجل من قبل (هواة) ومهتمين غير محترفين، لكنهم ينتمون إلى شعوب تسيطر عليها فضيلة الاهتمام. وأقرب مثال على هذا برامج الحاسب الآلي؛ إذ إن معظم البرامج الموجودة في الأسواق هي من تصميم هواة.
إن أمتنا لن تقف في مصاف الأمم ما لم يسهم كل واحد من أبنائها بشيء مفيد يضاف إلى رصيدها العام ليتشكل لدينا من قطرات الماء نهر أو جدول، ومن الحصى المتناثر تل أو جبل. وإن كثيرًا من القصور الذي نعانيه في هذا الشأن يعود إلى التربية الأسرية التي يتلقاها أبناؤنا، ثم تأتي المدارس لتزيد الطين بلة، فهي لا تهتم بتكوين الشخصية لطلابها، وليس عندها أي برامج أو تدريبات لبعث الاهتمام بالأشياء المفيدة أو الجديدة! وكان عليها عوضًا عن الأرقام الصماء التي تلقنها لطلابها عن إنتاجية العالم المتقدم أن تشرح لهم العوامل والأخلاقيات التي تقف خلف تلك الأرقام، من نحو سعة الاهتمام والمثابرة والجدية والتنظيم والتعاون... وأن تشرح لهم الدور الرائع الذي تؤديه المبادرة الفردية والهوايات المتعددة والمشروعات الصغيرة في إغناء حياة العالم المتقدم.
إن أمتنا لن تحصل على المقام الذي تستحقه ما لم يصبح الاهتمام بالميزات والتفاصيل والأشياء الصغيرة حركة مجتمع لا حركة صفوة.
د.عبد الكريم بن محمد الحسن بكار