ثلاث رسائل إلى الدعاة والمربين
د. بدر عبد الحميد هميسه
hamesabadr@yahoo.com
الرسالة الأولى : الخير والشر يتصارعان إلى يوم القيامة :
الحمد لله ولي الحمد والهداية والرشاد , والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي الذي أرسله الله خير قدوة للعباد , وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان واسترشاد.
وبعد . .
فان الله تعالى اقتضت حكمته أن يجعل الحياة الدنيا دار ممر وابتلاء , لا دار مقر وبقاء ؛ لذا فان الصراع بين الخير والشر والإيمان والكفر والحق والباطل سيبقى إلى يوم القيامة ،فما من إنسان إلا وتتنازعه قوتان قوة الخير وقوة الشر . فأيهما انتصر كانت طباع الإنسان عليه . فإذا انتصر الخير كان الإنسان مفيداً في مجتمعه نافعاً لذويه . وإذا انتصر الشر كان الإنسان مفسداً . ومعظم الناس تارة تتغلب قوة الخير فيهم وتارة تتغلب قوة الشر فيهم . فتجدهم على تقلب من أمرهم . وهذا الصراع هو سنة ربانية , وحكمة إلهية , وطبيعة بشرية , لأن الله لم يكتب العصمة للبشر؛ إلا للأنبياء والرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام .
وهذا الصراع هو صراع أزلي لا ينتهي لأن الربح والخسارة تكون لأحد الطرفين مرات،ومرات أخرى للطرف الآخر.
قال الشاعر:
الخير في الناس مصنوع إذا جبروا * * * والشر في الناس لا يفنى وإن قبروا
فالنفس البشرية ستبقى دائماً في هذا التنازع بين الخير والشر ، بين الفجور والتقوى , قال تعالى : {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (7- سورة الشمس.
أي عرّفها طريق الفجور والتقوى وزهّدها في الفجور ورغّبها في التقوى.. وقيل علّمها الطاعة والمعصية لتفعل الطاعة وتذر المعصية وتجتني الخير وتجتنب الشر.( الطبري 24/455).
قال الشاعر:
ليت الأسود لنا كانت مجاورة * * * وليتنا لا نرى مما نرى أحدا
إن الأسود لتهدا في مرابضها * * * والناس ليس بهاد شرهم أبدا
والقلوب في الثبات على الخير والشر والتردد بينهما ثلاثة أقسام :
القسم الأول: قلب عَمُر بالتقوى، وطهر عن خبائث الأخلاق، فتتفرج فيه خواطر الخير من خزائن الغيب، فيمده الملك بالهدى.
القسم الثاني: قلب مخذول، مشحون بالآثام ، مدنس بالخبائث، ملوث بالأخلاق الذميمة، فيقوى فيه سلطان الشيطان لاتساع مكانه، ويضعف سلطان الإيمان، ويمتلئ القلب بدخان المعاصي، فيعدم النور، ويصير كالعين الممتلئة بالدخان، لا يمكنها النظر، ولا يؤثر عنده زجر ولا وعظ.
القسم الثالث: قلب يبتدئ فيه خاطر الشيطان، فيدعوه إلى الشر، فيلحقه خاطر الإيمان فيدعوه إلى الخير. ويقع التردد بين الجندين، إلى أن يغلب على القلب ما كان أولى به، فمن كان على الخير يسر له، ومن كان على الشر يسر له.
قال أبو العتاهية :
الخير والشر عادات وأهواء * * * وقد يكون من الأحباب أعداء
للحكم شاهد صدق من تعمده * * * وللحليم عن العورات إغضاء
كل له سعيه والسعي مختلف * * * وكل نفس لها في سعيها شاء
عنْ حُذَيْفَةَ ، قَالَ : الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ : قَلْبٌ مُصَفَّحٌ ، فَذَلِكَ قَلْبُ الْمُنَافِقِ ، وَقَلْبٌ أَغْلَفُ ، فَذَلِكَ قَلْبُ الْكَافِرِ ، وَقَلْبٌ أَجْرَدُ ، كَأَنَّ فِيهِ سِرَاجًا يُزْهِرُ ، فَذَاكَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ ، وَقَلْبٌ فِيهِ نِفَاقٌ وَإِيمَانٌ ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ قُرْحَةٍ يَمُدُّ بِهَا قَيْحٌ وَدَمٌ ، وَمَثَلُهُ كَمَثَلِ شَجَرَةٍ يَسْقِيهَا مَاءٌ خَبِيثٌ وَمَاءٌ طَيِّبٌ ، فَأَيُّ مَاءٍ غَلَبَ عَلَيْهَا غَلَبَ. (عبد الرزاق في مصنفه ج 6/ ص 168 حديث رقم: 30404 روى مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم بإسناد جيد حسن).
وإذا كان هذا الصراع قائما ولسوف يبقى كذلك فما على العاقل إلا أن يسعي لتكثير الخير وتقليل الشر , وان يحرص على أن يكون دائما مفتاحاً من مفاتيح الخير . عنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ ، مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ ، وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ ، مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ.
أخرجه ابن ماجة (237). الألباني " السلسلة الصحيحة " 3 / 320 .
فما عليك أيها العاقل إلا أن تختار بين الخير والشر ، بين الحق والضلال و بين الشكر والكفر قال تعالى : {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (3) سورة الإنسان.
وقال الشاعر :
أمامك فانظـر أي نهجيك تنهـجِ * * * طريقـان شـتى مستقيـم وأعوجِ
الرسالة الثانية : ولكن الله يهدي من يشاء :
يجب على كل داعية ومرب أن يبذل جهده في الدعوة إلى الله وإرشاد من يدعوهم إلى طريق الله المستقيم , أما الهداية والنتائج فهي على الله تعالى وحده .
فقد أمر الله تعالى نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم فقال : {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (67) سورة المائدة .
ثم بين له أن مهمته هي التبليغ فقط أما الهداية فهي على الله وحده . قال تعالى : {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } (272) سورة البقرة.
وقال : {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (56) سورة القصص.
وقال : {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} (99) سورة يونس.
روى ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو سلمة حدثنا حماد بن سلمة حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن أبي راشد قال كان رسول قيصر جاء إلي قال كتب معي قيصر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا فأتيته فدفعت الكتاب فوضعه في حجره ثم قال ممن الرجل قلت من تنوخ قال هل لك في دين أبيك إبراهيم الحنيفية قلت إني رسول قوم وعلى دينهم حتى أرجع إليهم فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم و نظر إلى أصحابه وقال إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء. (تفسير ابن كثير ج3/ص396).
لقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه من اشد الناس على المسلمين , حتى أنهم قالوا :لن يسلم عمر حتى يسلم حمار الخطاب . فعَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ ، عَنْ أُمّهِ أُمّ عَبْدِ اللّهِ بِنْتِ أَبِي حَثْمَةَ ، قَالَتْ وَاَللّهِ إنّا لَنَتَرَحّلُ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، وَقَدْ ذَهَبَ عَامِرٌ فِي بَعْضِ حَاجَاتِنَا ، إذْ أَقْبَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ ، حَتّى وَقَفَ عَلَيّ وَهُوَ عَلَى شِرْكِهِ - قَالَتْ وَكُنّا نَلْقَى مِنْهُ الْبَلَاءَ أَذًى لَنَا ، وَشِدّةً عَلَيْنَا قَالَتْ فَقَالَ إنّهُ لَلِانْطِلَاقُ يَا أُمّ عَبْدِ اللّهِ . قَالَتْ فَقُلْت : نَعَمْ وَاَللّهِ لَنَخْرُجَنّ فِي أَرْضِ اللّهِ آذَيْتُمُونَا وَقَهَرْتُمُونَا ، حَتّى يَجْعَلَ اللّهُ مَخْرَجًا . قَالَتْ فَقَالَ صَحِبَكُمْ اللّهُ وَرَأَيْت لَهُ رِقّةً لَمْ أَكُنْ أَرَاهَا ، ثُمّ انْصَرَفَ وَقَدْ أَحْزَنَهُ - فِيمَا أَرَى - خُرُوجُنَا . قَالَتْ فَجَاءَ عَامِرٌ بِحَاجَتِهِ تِلْكَ فَقَالَتْ لَهُ يَا أَبَا عَبْدِ اللّهِ لَوْ رَأَيْت عُمَرَ آنِفًا وَرِقّتَهُ وَحُزْنَهُ عَلَيْنَا قَالَ أَطَمِعْت فِي إسْلَامِهِ ؟ قَالَتْ قُلْت : نَعَمْ قَالَ فَلَا يُسْلِمُ الّذِي رَأَيْت ، حَتّى يُسْلِمَ حِمَارُ الْخَطّابِ قَالَتْ يَأْسًا مِنْهُ لِمَا كَانَ يَرَى مِنْ غِلْظَتِهِ وَقَسْوَتِهِ عَنْ الْإِسْلَامِ .( البيهقي : دلائل النبوة 1/328 ، الطبراني : المعجم الكبير 18/207 , سيرة ابن هشام 1/342).
ولكن عمر رضي الله عنه أسلم من حيث لا يتوقع أحد , ودونما عناء في إقناعه بالإسلام ؛ لان الهداية جاءته من الله تعالى .
قال البوصيري:
وإذا حلت الهداية نفساً * * * نشطت للعبادة الأعضاء !
وها هو عمير بن وهب الذي كانوا يطلقون عليه " شيطان قريش " انظر كيف دخل الإسلام ؟ .
قال عروة بن الزبير: جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية في الحِجْر، بعد مصاب أهل بدر بيسير، وكان عمير بن وهب شيطانًا من شياطين قريش، وممن كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويلقون منه عناء وهو بمكة، وكان ابنه وهب بن عمير في أسارى بدر، فذكر أصحاب القليب ومصابهم، فقال صفوان: والله ما في العيش بعدهم خير. قال له عمير: صدقت، أما والله لولا دَيْنٌ علي ليس عندي قضاؤه، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي، لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لي فيهم علة، ابني أسير في أيديهم.قال: فاغتنمها صفوان بن أمية فقال: عليّ دينك أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا، لا يسعني شيء ويعجز عنهم، فقال له عمير: فاكتم علي شأني وشأنك. قال: أفعل.: ثم أمر عمير بسيفه، فشحذ وسُمَّ، ثم انطلق حتى قدم المدينة، فبينما عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر، ويذكرون ما أكرمهم الله به، وما أراهم في عدوهم، إذ نظر عمر إلى عمير بن وهب وقد أناخ راحلته على باب المسجد متوشحًا سيفه، فقال: هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب، ما جاء إلا لشرٍّ وهو الذي حرش بيننا، وحزرنا للقوم يوم بدر. ثم دخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحًا سيفه.قال صلى الله عليه وسلم: «فأدخله عليَّ» قال: فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه فلبَّبَه بها، وقال لمن كان معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجلسوا عنده واحذروا عليه من هذا الخبيث، فإنه غير مأمون. ثم دخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه قال: «أرسله يا عمر، ادنُ يا عميرُ».فدنا ثم قال: انعموا صباحًا، وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام تحية أهل الجنة».فقال: أما والله، يا محمد إن كنت بها لحديث عهد.فقال: «فما جاء بك يا عمير؟» قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه.قال: «فما بال السيف في عنقك؟» قال: قبَّحها الله من سيوف! وهل أغنت عنا شيئًا؟!! قال: «اصدقني ما الذي جئْتَ به؟» قال: ما جئت إلا لذلك.قال: «بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دينٌ عليَّ وعيالٌ عندي لخرجت حتى أقتل محمدًا، فتحمل لك صفوان بن أمية بدينك وعيالك، على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك».قال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق، ثم شهد شهادة الحق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فقهوا أخاكم في دينه، وعلموه القرآن، وأطلقوا أسيره ففعلوا».ثم قال: يا رسول الله إني كنت جاهدًا على إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله عز وجل، وأنا أحب أن تأذن لي فأقدم مكة فأدعوهم إلى الله وإلى رسوله، وإلى الإسلام، لعل الله يهديهم، وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أوذي أصحابك في دينهم، قال: فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلحق بمكة وكان صفوان بن أمية حين خرج عمير بن وهب، يقول: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن في أيام، تنسيكم وقعة بدر، وكان صفوان يسأل عن الركبان، حتى قدم راكب فأخبره بإسلامه، فحلف أن لا يكلمه أبدًا، ولا ينفعه بنفع أبدًا». ( الصلابي : السيرة النبوية عرض ووقائع 2 / 74 ).
ولقد اخبرنا الصادق المعصوم صلى الله عليه وسلم أن يوم القيامة يأتي نبي من الأنبياء وليس معه أحد ؛ أي بالرغم من أنه ظل سنين طويلة يدعو قومه إلى عبادة الله ولم يألو جهده في ذلك إلا أن إرادة الله شاءت انه لم يؤمن بدعوته احد , ومع ذلك لم يرد أنه قد تخلى عن الدعوة إلى الله .
ففي الحديث المتفق عليه والذي رواه ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ فَأَخَذَ النَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ الأُمَّةُ وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ النَّفَرُ وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ الْعَشَرَةُ وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ الْخَمْسَةُ وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ وَحْدَهُ" .( وفي رواية مسلم : فرأيت النبي ومعه الرهيط والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي ليس معه أحد ).
فإياك أيها الداعية ويا أيها المربي الفاضل, إياك أن يتسلل اليأس إلى قلبك من إعراض الناس عنك , فقد أُمرت بالتبليغ , وأما الهداية فإنها من الله وحده .
الرسالة الثالثة : ابحث عن بذرة الخير التي في الناس:
أيها الداعية والمربي الحبيب إذا كنت قد علمت أن الخير والشر، والحق والباطل ، والإيمان والكفر سيظلان يتصارعان إلى يوم القيامة , وأنه ما عليك إلا البلاغ وأما الهداية فهي على الله وحده ؛ فان عليك – أيضاً –أن تبحث وأنت تدعوا الناس إلى الخير والصلاح عن بذرة الهداية في قلوب الناس ؛ لان بعض الناس في تعاملاتهم مع الخلق لا يبحثون إلا عن بذرة الشر في قلوب الناس .
ففي القلوب مادتان مادة للخير ومادة للشر , مادة للنور ومادة للظلام . وإذا بحثت في قلب أعتى العتاة سوف تجد هناك بذرة للخير , ولكن من ينميها ومن يغذيها .
إن ابن آدم ( قابيل) حينما ارتكب أول جريمة قتل على ظهر الأرض وبعد أن قتل أخاه (هابيل )وعصى ربه وأباه تحركت بذرة الخير في قلبه فندم على فعلته واخذ يبحث عن مكان يواري فيه جثة أخيه . قال تعالى : {فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} (31) سورة المائدة.
وفرعون أشد الملوك تجبراً وعتواً وكفراً , فرعون الذي قال : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} (24) سورة النازعات.
فرعون رمز الضلال , قال تعالى : {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} (79) سورة طـه.
فرعون رمز العلو والاستكبار , قال تعالى : {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (4) سورة القصص.
حينما تقرأ قصته لا تجده شراً محضاً , فلا يوجد إنسان هو خير محض , كما لا يوجد إنسان هو شر محض , تجد فرعون لديه بعض الرحمة والشفقة والإنصاف . فقد ترك قتل موسى على الرغم من شكه في أن هذا الطفل من الممكن أن يكون سبب هلاكه , قال تعالى :{وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (9) سورة القصص.
وتأمل كذلك حواره مع موسى حينما دعاه إلى الإيمان بالله تعالى وحده .
قال تعالى : (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ* قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ *قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ* قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ *وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ * قَالَ لِلْمَلإٍ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ* يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ * فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ * لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ * فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ * فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ * فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ *قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ * قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ * سورة الشعراء 23-51.
وقد ذكر لنا الرسول صلى الله عليه وسلم قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً لكن بذرة الخير تحركت في نفسه , فذهب إلى احد الرهبان وعرض عليه أمر التوبة فلم يلتفت هذا الراهب إلا إلى بذرة الشر في نفس الرجل فقتله وأكمل به المائة , ثم بحث عن رجل عالم فقيه فحرك بذرة الخير فيه وتعامل معها بحكمة فكان سببا لتوبة الله عليه .
فعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ أَنَّ نَبِىَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لَهُ مِنَ تَوْبَةٍ فَقَالَ لاَ. فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ فَقَالَ إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ فَقَالَ نَعَمْ وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ وَلاَ تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ. فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ فَقَالَتْ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلاً بِقَلْبِهِ إِلَى اللهِ. وَقَالَتْ مَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ. فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِىٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ فَقَالَ قِيسُوا مَا بَيْنَ الأَرْضَيْنِ فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ. فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الأَرْضِ التي أَرَادَ فَقَبَضَتْهُ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ.قَالَ قَتَادَةُ فَقَالَ الْحَسَنُ ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ لَمَّا أَتَاهُ الْمَوْتُ نَأَى بِصَدْرِهِ".رواه البخاري (5378، 5420، 6175)، ومسلم (220) عن ابن عباس.
وهذا ما فعله النبي –صلى الله عليه وسلم – مع خالد بن الوليد رضي الله عنه والذي كان شديداً على المسلمين ودليله ما فعله في أُحد ضد المسلمين . لكن حينما أسلم أخوه الوليد بن الوليد، ودخل الرسول-صلى الله عليه وسلم –مكة في عمرة القضاء فسأل الوليد عن أخيه خالد،فقال: (أين خالد ؟)...فقال الوليد: (يأتي به الله. فقال النبي:- صلى الله عليه وسلم-: (ما مثله يجهل الإسلام،ولو كان يجعل نكايته مع المسلمين على المشركين كان خيراً له،ولقدمناه على غيره)...فخرج الوليد يبحث عن أخيه فلم يجده،فترك له رسالة قال فيها : (بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد...فأنى لم أرى أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام وعقلك عقلك،ومثل الإسلام يجهله أحد؟!...وقد سألني عنك رسول الله،فقال أين خالد-وذكر قول النبي-صلى الله عليه وسلم-فيه-ثم قال له:فستدرك يا أخي ما فاتك فيه،فاتتك مواطن صالحة).وقد كان خالد –رضي الله عنه-يفكر في الإسلام، فلما قرأ رسالة سر بها سرورا كبيراً،وأعجبه مقاله النبي-صلى الله عليه وسلم-فيه،فتشجع وأسلم" ( برهان الدين الحلبي:لسيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون 2/777).
فانظر كيف حرك النبي صلى الله عليه وسلم بذرة الخير ومنبعه في نفس خالد بن الوليد حتى صار بعها سيف الله المسلول.
فهناك شخص تحركه من جهة المال، وإنسان آخر تحركه من جهة يحب الفخر والوجاهة والمديح وثالث من جهة الشجاعة , ورابع من جهة الكرم وهكذا .
في فتح مكة قال الْعَبّاسُ : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ يُحِبّ الْفَخْرَ فَاجْعَلْ لَهُ شَيْئًا قَالَ نَعَم مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَهُوَ آمِنٌ" . ابن قيم الجوزية: زاد المعاد في هَدْي خير العباد 3/347 .
ومن هنا فقد شرع الإسلام سهما في الزكاة للمؤلفة قلوبهم , وهم قوم كانوا يُتَألَّفون على الإسلام، ممن لم تصحّ نصرته، استصلاحًا به نفسَه وعشيرتَه وقال ابن كثير : وأما المؤلفة قلوبهم: فأقسام: منهم من يعطى ليُسلم، كما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم صفوان بن أمية من غنائم حنين، وقد كان شهدها مشركا. قال: فلم يزل يعطيني حتى صار أحبَّ الناس إليَّ بعد أن كان أبغض الناس إلي. (تفسير الطبري 14/312 , تفسير ابن كثير 4/167) .
عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقَالَ ائْذَنُواْ لَهُ فَبِئْسَ ابْنُ العَشِيرَةِ أَوْ بِئْسَ أَخُو العَشِيرَةِ فَلَمَّا دَخَلَ أَلانَ لَهُ الكَلامَ فَقُلْتُ لَهُ يَا رَسُولَ اللهِ قُلْتَ مَا قُلْتَ ثمَّ أَلَنْتَ لَهُ في القَوْلِ فَقَالَ أَيْ عَائِشَةُ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ "0أخرجه البخاري ( 4 /125 - 126،142 ) و مسلم (8 /21) و أبو داود (4791 ) و الترمذي ( 1 / 360 ) و أحمد ( 6 / 38 ).
فهكذا علمنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نبحث عن الخير الذي في الناس , وأن ندع ما فيهم من شر .
قال أبو الفتح البستي :
مَنْ يزرع الشَّرَ يَحْصُدْ في عَواقِبه * * * وعاشَ وهْو قَرِير العينِ جَذْلاَنُ
مَنْ اسْتَنَامَ إلى الأشْرارِ نَامَ وفي * * * نَدامةً، ولِحَصْدِ الزَّرْعِ إبَّانُ
أحْسِنْ إذا كان إمكانٌ ومقدرةٌ * * * رِدَائِه مِنْهُمُ صِلّ وثُعبانُ
فالروض يزدان بالأنوار فاغمه * * * فلن يدوم على الإحسان إمكان
مر أبو الدرداء رضي الله عنه على رجل قد أصاب ذنبا والناس يسبونه، فلم يعجبه ما رأى من صنيعهم، وأراد أن يضيف إليهم من خبرته العميقة في الدعوة، قاعدة لم يبد له أنهم يعرفونها فقال لهم(لو وجدتموه في قليب، ألم تكونوا مستخرجيه؟قالوا: بلى.قال: فلا تسبوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم. فقالوا: أفلا نبغضه؟فقال: إنما أبغض عمله، فإذا تركه، فهو أخي)).
اللهم نسألك سؤال مُلحّ يرجو الإجابة أن تجعل ألسنتنا عفيفة، وقلوبنا مُحبة للمؤمنين، ربنا لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا واجعلنا ممن يتكلم إذا تكلم بالخير، وإذا نطق نطق بالخير. اللهم ارزقنا صفاء القلوب ، ونقاء السرائر، اللهم اغـفر لنا ما قدّمنا وما أخّرنا، وما أسـررنا وما أعلـنا، وما أنت أعلم به منّا , أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت.
د. بدر عبد الحميد هميسه
hamesabadr@yahoo.com
الرسالة الأولى : الخير والشر يتصارعان إلى يوم القيامة :
الحمد لله ولي الحمد والهداية والرشاد , والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي الذي أرسله الله خير قدوة للعباد , وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان واسترشاد.
وبعد . .
فان الله تعالى اقتضت حكمته أن يجعل الحياة الدنيا دار ممر وابتلاء , لا دار مقر وبقاء ؛ لذا فان الصراع بين الخير والشر والإيمان والكفر والحق والباطل سيبقى إلى يوم القيامة ،فما من إنسان إلا وتتنازعه قوتان قوة الخير وقوة الشر . فأيهما انتصر كانت طباع الإنسان عليه . فإذا انتصر الخير كان الإنسان مفيداً في مجتمعه نافعاً لذويه . وإذا انتصر الشر كان الإنسان مفسداً . ومعظم الناس تارة تتغلب قوة الخير فيهم وتارة تتغلب قوة الشر فيهم . فتجدهم على تقلب من أمرهم . وهذا الصراع هو سنة ربانية , وحكمة إلهية , وطبيعة بشرية , لأن الله لم يكتب العصمة للبشر؛ إلا للأنبياء والرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام .
وهذا الصراع هو صراع أزلي لا ينتهي لأن الربح والخسارة تكون لأحد الطرفين مرات،ومرات أخرى للطرف الآخر.
قال الشاعر:
الخير في الناس مصنوع إذا جبروا * * * والشر في الناس لا يفنى وإن قبروا
فالنفس البشرية ستبقى دائماً في هذا التنازع بين الخير والشر ، بين الفجور والتقوى , قال تعالى : {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (7- سورة الشمس.
أي عرّفها طريق الفجور والتقوى وزهّدها في الفجور ورغّبها في التقوى.. وقيل علّمها الطاعة والمعصية لتفعل الطاعة وتذر المعصية وتجتني الخير وتجتنب الشر.( الطبري 24/455).
قال الشاعر:
ليت الأسود لنا كانت مجاورة * * * وليتنا لا نرى مما نرى أحدا
إن الأسود لتهدا في مرابضها * * * والناس ليس بهاد شرهم أبدا
والقلوب في الثبات على الخير والشر والتردد بينهما ثلاثة أقسام :
القسم الأول: قلب عَمُر بالتقوى، وطهر عن خبائث الأخلاق، فتتفرج فيه خواطر الخير من خزائن الغيب، فيمده الملك بالهدى.
القسم الثاني: قلب مخذول، مشحون بالآثام ، مدنس بالخبائث، ملوث بالأخلاق الذميمة، فيقوى فيه سلطان الشيطان لاتساع مكانه، ويضعف سلطان الإيمان، ويمتلئ القلب بدخان المعاصي، فيعدم النور، ويصير كالعين الممتلئة بالدخان، لا يمكنها النظر، ولا يؤثر عنده زجر ولا وعظ.
القسم الثالث: قلب يبتدئ فيه خاطر الشيطان، فيدعوه إلى الشر، فيلحقه خاطر الإيمان فيدعوه إلى الخير. ويقع التردد بين الجندين، إلى أن يغلب على القلب ما كان أولى به، فمن كان على الخير يسر له، ومن كان على الشر يسر له.
قال أبو العتاهية :
الخير والشر عادات وأهواء * * * وقد يكون من الأحباب أعداء
للحكم شاهد صدق من تعمده * * * وللحليم عن العورات إغضاء
كل له سعيه والسعي مختلف * * * وكل نفس لها في سعيها شاء
عنْ حُذَيْفَةَ ، قَالَ : الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ : قَلْبٌ مُصَفَّحٌ ، فَذَلِكَ قَلْبُ الْمُنَافِقِ ، وَقَلْبٌ أَغْلَفُ ، فَذَلِكَ قَلْبُ الْكَافِرِ ، وَقَلْبٌ أَجْرَدُ ، كَأَنَّ فِيهِ سِرَاجًا يُزْهِرُ ، فَذَاكَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ ، وَقَلْبٌ فِيهِ نِفَاقٌ وَإِيمَانٌ ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ قُرْحَةٍ يَمُدُّ بِهَا قَيْحٌ وَدَمٌ ، وَمَثَلُهُ كَمَثَلِ شَجَرَةٍ يَسْقِيهَا مَاءٌ خَبِيثٌ وَمَاءٌ طَيِّبٌ ، فَأَيُّ مَاءٍ غَلَبَ عَلَيْهَا غَلَبَ. (عبد الرزاق في مصنفه ج 6/ ص 168 حديث رقم: 30404 روى مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم بإسناد جيد حسن).
وإذا كان هذا الصراع قائما ولسوف يبقى كذلك فما على العاقل إلا أن يسعي لتكثير الخير وتقليل الشر , وان يحرص على أن يكون دائما مفتاحاً من مفاتيح الخير . عنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ ، مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ ، وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ ، مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ.
أخرجه ابن ماجة (237). الألباني " السلسلة الصحيحة " 3 / 320 .
فما عليك أيها العاقل إلا أن تختار بين الخير والشر ، بين الحق والضلال و بين الشكر والكفر قال تعالى : {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (3) سورة الإنسان.
وقال الشاعر :
أمامك فانظـر أي نهجيك تنهـجِ * * * طريقـان شـتى مستقيـم وأعوجِ
الرسالة الثانية : ولكن الله يهدي من يشاء :
يجب على كل داعية ومرب أن يبذل جهده في الدعوة إلى الله وإرشاد من يدعوهم إلى طريق الله المستقيم , أما الهداية والنتائج فهي على الله تعالى وحده .
فقد أمر الله تعالى نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم فقال : {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (67) سورة المائدة .
ثم بين له أن مهمته هي التبليغ فقط أما الهداية فهي على الله وحده . قال تعالى : {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } (272) سورة البقرة.
وقال : {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (56) سورة القصص.
وقال : {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} (99) سورة يونس.
روى ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو سلمة حدثنا حماد بن سلمة حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن أبي راشد قال كان رسول قيصر جاء إلي قال كتب معي قيصر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا فأتيته فدفعت الكتاب فوضعه في حجره ثم قال ممن الرجل قلت من تنوخ قال هل لك في دين أبيك إبراهيم الحنيفية قلت إني رسول قوم وعلى دينهم حتى أرجع إليهم فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم و نظر إلى أصحابه وقال إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء. (تفسير ابن كثير ج3/ص396).
لقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه من اشد الناس على المسلمين , حتى أنهم قالوا :لن يسلم عمر حتى يسلم حمار الخطاب . فعَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ ، عَنْ أُمّهِ أُمّ عَبْدِ اللّهِ بِنْتِ أَبِي حَثْمَةَ ، قَالَتْ وَاَللّهِ إنّا لَنَتَرَحّلُ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، وَقَدْ ذَهَبَ عَامِرٌ فِي بَعْضِ حَاجَاتِنَا ، إذْ أَقْبَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ ، حَتّى وَقَفَ عَلَيّ وَهُوَ عَلَى شِرْكِهِ - قَالَتْ وَكُنّا نَلْقَى مِنْهُ الْبَلَاءَ أَذًى لَنَا ، وَشِدّةً عَلَيْنَا قَالَتْ فَقَالَ إنّهُ لَلِانْطِلَاقُ يَا أُمّ عَبْدِ اللّهِ . قَالَتْ فَقُلْت : نَعَمْ وَاَللّهِ لَنَخْرُجَنّ فِي أَرْضِ اللّهِ آذَيْتُمُونَا وَقَهَرْتُمُونَا ، حَتّى يَجْعَلَ اللّهُ مَخْرَجًا . قَالَتْ فَقَالَ صَحِبَكُمْ اللّهُ وَرَأَيْت لَهُ رِقّةً لَمْ أَكُنْ أَرَاهَا ، ثُمّ انْصَرَفَ وَقَدْ أَحْزَنَهُ - فِيمَا أَرَى - خُرُوجُنَا . قَالَتْ فَجَاءَ عَامِرٌ بِحَاجَتِهِ تِلْكَ فَقَالَتْ لَهُ يَا أَبَا عَبْدِ اللّهِ لَوْ رَأَيْت عُمَرَ آنِفًا وَرِقّتَهُ وَحُزْنَهُ عَلَيْنَا قَالَ أَطَمِعْت فِي إسْلَامِهِ ؟ قَالَتْ قُلْت : نَعَمْ قَالَ فَلَا يُسْلِمُ الّذِي رَأَيْت ، حَتّى يُسْلِمَ حِمَارُ الْخَطّابِ قَالَتْ يَأْسًا مِنْهُ لِمَا كَانَ يَرَى مِنْ غِلْظَتِهِ وَقَسْوَتِهِ عَنْ الْإِسْلَامِ .( البيهقي : دلائل النبوة 1/328 ، الطبراني : المعجم الكبير 18/207 , سيرة ابن هشام 1/342).
ولكن عمر رضي الله عنه أسلم من حيث لا يتوقع أحد , ودونما عناء في إقناعه بالإسلام ؛ لان الهداية جاءته من الله تعالى .
قال البوصيري:
وإذا حلت الهداية نفساً * * * نشطت للعبادة الأعضاء !
وها هو عمير بن وهب الذي كانوا يطلقون عليه " شيطان قريش " انظر كيف دخل الإسلام ؟ .
قال عروة بن الزبير: جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية في الحِجْر، بعد مصاب أهل بدر بيسير، وكان عمير بن وهب شيطانًا من شياطين قريش، وممن كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويلقون منه عناء وهو بمكة، وكان ابنه وهب بن عمير في أسارى بدر، فذكر أصحاب القليب ومصابهم، فقال صفوان: والله ما في العيش بعدهم خير. قال له عمير: صدقت، أما والله لولا دَيْنٌ علي ليس عندي قضاؤه، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي، لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لي فيهم علة، ابني أسير في أيديهم.قال: فاغتنمها صفوان بن أمية فقال: عليّ دينك أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا، لا يسعني شيء ويعجز عنهم، فقال له عمير: فاكتم علي شأني وشأنك. قال: أفعل.: ثم أمر عمير بسيفه، فشحذ وسُمَّ، ثم انطلق حتى قدم المدينة، فبينما عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر، ويذكرون ما أكرمهم الله به، وما أراهم في عدوهم، إذ نظر عمر إلى عمير بن وهب وقد أناخ راحلته على باب المسجد متوشحًا سيفه، فقال: هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب، ما جاء إلا لشرٍّ وهو الذي حرش بيننا، وحزرنا للقوم يوم بدر. ثم دخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحًا سيفه.قال صلى الله عليه وسلم: «فأدخله عليَّ» قال: فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه فلبَّبَه بها، وقال لمن كان معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجلسوا عنده واحذروا عليه من هذا الخبيث، فإنه غير مأمون. ثم دخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه قال: «أرسله يا عمر، ادنُ يا عميرُ».فدنا ثم قال: انعموا صباحًا، وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام تحية أهل الجنة».فقال: أما والله، يا محمد إن كنت بها لحديث عهد.فقال: «فما جاء بك يا عمير؟» قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه.قال: «فما بال السيف في عنقك؟» قال: قبَّحها الله من سيوف! وهل أغنت عنا شيئًا؟!! قال: «اصدقني ما الذي جئْتَ به؟» قال: ما جئت إلا لذلك.قال: «بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دينٌ عليَّ وعيالٌ عندي لخرجت حتى أقتل محمدًا، فتحمل لك صفوان بن أمية بدينك وعيالك، على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك».قال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق، ثم شهد شهادة الحق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فقهوا أخاكم في دينه، وعلموه القرآن، وأطلقوا أسيره ففعلوا».ثم قال: يا رسول الله إني كنت جاهدًا على إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله عز وجل، وأنا أحب أن تأذن لي فأقدم مكة فأدعوهم إلى الله وإلى رسوله، وإلى الإسلام، لعل الله يهديهم، وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أوذي أصحابك في دينهم، قال: فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلحق بمكة وكان صفوان بن أمية حين خرج عمير بن وهب، يقول: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن في أيام، تنسيكم وقعة بدر، وكان صفوان يسأل عن الركبان، حتى قدم راكب فأخبره بإسلامه، فحلف أن لا يكلمه أبدًا، ولا ينفعه بنفع أبدًا». ( الصلابي : السيرة النبوية عرض ووقائع 2 / 74 ).
ولقد اخبرنا الصادق المعصوم صلى الله عليه وسلم أن يوم القيامة يأتي نبي من الأنبياء وليس معه أحد ؛ أي بالرغم من أنه ظل سنين طويلة يدعو قومه إلى عبادة الله ولم يألو جهده في ذلك إلا أن إرادة الله شاءت انه لم يؤمن بدعوته احد , ومع ذلك لم يرد أنه قد تخلى عن الدعوة إلى الله .
ففي الحديث المتفق عليه والذي رواه ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ فَأَخَذَ النَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ الأُمَّةُ وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ النَّفَرُ وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ الْعَشَرَةُ وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ الْخَمْسَةُ وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ وَحْدَهُ" .( وفي رواية مسلم : فرأيت النبي ومعه الرهيط والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي ليس معه أحد ).
فإياك أيها الداعية ويا أيها المربي الفاضل, إياك أن يتسلل اليأس إلى قلبك من إعراض الناس عنك , فقد أُمرت بالتبليغ , وأما الهداية فإنها من الله وحده .
الرسالة الثالثة : ابحث عن بذرة الخير التي في الناس:
أيها الداعية والمربي الحبيب إذا كنت قد علمت أن الخير والشر، والحق والباطل ، والإيمان والكفر سيظلان يتصارعان إلى يوم القيامة , وأنه ما عليك إلا البلاغ وأما الهداية فهي على الله وحده ؛ فان عليك – أيضاً –أن تبحث وأنت تدعوا الناس إلى الخير والصلاح عن بذرة الهداية في قلوب الناس ؛ لان بعض الناس في تعاملاتهم مع الخلق لا يبحثون إلا عن بذرة الشر في قلوب الناس .
ففي القلوب مادتان مادة للخير ومادة للشر , مادة للنور ومادة للظلام . وإذا بحثت في قلب أعتى العتاة سوف تجد هناك بذرة للخير , ولكن من ينميها ومن يغذيها .
إن ابن آدم ( قابيل) حينما ارتكب أول جريمة قتل على ظهر الأرض وبعد أن قتل أخاه (هابيل )وعصى ربه وأباه تحركت بذرة الخير في قلبه فندم على فعلته واخذ يبحث عن مكان يواري فيه جثة أخيه . قال تعالى : {فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} (31) سورة المائدة.
وفرعون أشد الملوك تجبراً وعتواً وكفراً , فرعون الذي قال : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} (24) سورة النازعات.
فرعون رمز الضلال , قال تعالى : {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} (79) سورة طـه.
فرعون رمز العلو والاستكبار , قال تعالى : {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (4) سورة القصص.
حينما تقرأ قصته لا تجده شراً محضاً , فلا يوجد إنسان هو خير محض , كما لا يوجد إنسان هو شر محض , تجد فرعون لديه بعض الرحمة والشفقة والإنصاف . فقد ترك قتل موسى على الرغم من شكه في أن هذا الطفل من الممكن أن يكون سبب هلاكه , قال تعالى :{وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (9) سورة القصص.
وتأمل كذلك حواره مع موسى حينما دعاه إلى الإيمان بالله تعالى وحده .
قال تعالى : (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ* قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ *قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ* قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ *وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ * قَالَ لِلْمَلإٍ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ* يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ * فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ * لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ * فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ * فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ * فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ *قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ * قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ * سورة الشعراء 23-51.
وقد ذكر لنا الرسول صلى الله عليه وسلم قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً لكن بذرة الخير تحركت في نفسه , فذهب إلى احد الرهبان وعرض عليه أمر التوبة فلم يلتفت هذا الراهب إلا إلى بذرة الشر في نفس الرجل فقتله وأكمل به المائة , ثم بحث عن رجل عالم فقيه فحرك بذرة الخير فيه وتعامل معها بحكمة فكان سببا لتوبة الله عليه .
فعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ أَنَّ نَبِىَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لَهُ مِنَ تَوْبَةٍ فَقَالَ لاَ. فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ فَقَالَ إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ فَقَالَ نَعَمْ وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ وَلاَ تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ. فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ فَقَالَتْ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلاً بِقَلْبِهِ إِلَى اللهِ. وَقَالَتْ مَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ. فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِىٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ فَقَالَ قِيسُوا مَا بَيْنَ الأَرْضَيْنِ فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ. فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الأَرْضِ التي أَرَادَ فَقَبَضَتْهُ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ.قَالَ قَتَادَةُ فَقَالَ الْحَسَنُ ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ لَمَّا أَتَاهُ الْمَوْتُ نَأَى بِصَدْرِهِ".رواه البخاري (5378، 5420، 6175)، ومسلم (220) عن ابن عباس.
وهذا ما فعله النبي –صلى الله عليه وسلم – مع خالد بن الوليد رضي الله عنه والذي كان شديداً على المسلمين ودليله ما فعله في أُحد ضد المسلمين . لكن حينما أسلم أخوه الوليد بن الوليد، ودخل الرسول-صلى الله عليه وسلم –مكة في عمرة القضاء فسأل الوليد عن أخيه خالد،فقال: (أين خالد ؟)...فقال الوليد: (يأتي به الله. فقال النبي:- صلى الله عليه وسلم-: (ما مثله يجهل الإسلام،ولو كان يجعل نكايته مع المسلمين على المشركين كان خيراً له،ولقدمناه على غيره)...فخرج الوليد يبحث عن أخيه فلم يجده،فترك له رسالة قال فيها : (بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد...فأنى لم أرى أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام وعقلك عقلك،ومثل الإسلام يجهله أحد؟!...وقد سألني عنك رسول الله،فقال أين خالد-وذكر قول النبي-صلى الله عليه وسلم-فيه-ثم قال له:فستدرك يا أخي ما فاتك فيه،فاتتك مواطن صالحة).وقد كان خالد –رضي الله عنه-يفكر في الإسلام، فلما قرأ رسالة سر بها سرورا كبيراً،وأعجبه مقاله النبي-صلى الله عليه وسلم-فيه،فتشجع وأسلم" ( برهان الدين الحلبي:لسيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون 2/777).
فانظر كيف حرك النبي صلى الله عليه وسلم بذرة الخير ومنبعه في نفس خالد بن الوليد حتى صار بعها سيف الله المسلول.
فهناك شخص تحركه من جهة المال، وإنسان آخر تحركه من جهة يحب الفخر والوجاهة والمديح وثالث من جهة الشجاعة , ورابع من جهة الكرم وهكذا .
في فتح مكة قال الْعَبّاسُ : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ يُحِبّ الْفَخْرَ فَاجْعَلْ لَهُ شَيْئًا قَالَ نَعَم مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَهُوَ آمِنٌ" . ابن قيم الجوزية: زاد المعاد في هَدْي خير العباد 3/347 .
ومن هنا فقد شرع الإسلام سهما في الزكاة للمؤلفة قلوبهم , وهم قوم كانوا يُتَألَّفون على الإسلام، ممن لم تصحّ نصرته، استصلاحًا به نفسَه وعشيرتَه وقال ابن كثير : وأما المؤلفة قلوبهم: فأقسام: منهم من يعطى ليُسلم، كما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم صفوان بن أمية من غنائم حنين، وقد كان شهدها مشركا. قال: فلم يزل يعطيني حتى صار أحبَّ الناس إليَّ بعد أن كان أبغض الناس إلي. (تفسير الطبري 14/312 , تفسير ابن كثير 4/167) .
عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقَالَ ائْذَنُواْ لَهُ فَبِئْسَ ابْنُ العَشِيرَةِ أَوْ بِئْسَ أَخُو العَشِيرَةِ فَلَمَّا دَخَلَ أَلانَ لَهُ الكَلامَ فَقُلْتُ لَهُ يَا رَسُولَ اللهِ قُلْتَ مَا قُلْتَ ثمَّ أَلَنْتَ لَهُ في القَوْلِ فَقَالَ أَيْ عَائِشَةُ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ "0أخرجه البخاري ( 4 /125 - 126،142 ) و مسلم (8 /21) و أبو داود (4791 ) و الترمذي ( 1 / 360 ) و أحمد ( 6 / 38 ).
فهكذا علمنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نبحث عن الخير الذي في الناس , وأن ندع ما فيهم من شر .
قال أبو الفتح البستي :
مَنْ يزرع الشَّرَ يَحْصُدْ في عَواقِبه * * * وعاشَ وهْو قَرِير العينِ جَذْلاَنُ
مَنْ اسْتَنَامَ إلى الأشْرارِ نَامَ وفي * * * نَدامةً، ولِحَصْدِ الزَّرْعِ إبَّانُ
أحْسِنْ إذا كان إمكانٌ ومقدرةٌ * * * رِدَائِه مِنْهُمُ صِلّ وثُعبانُ
فالروض يزدان بالأنوار فاغمه * * * فلن يدوم على الإحسان إمكان
مر أبو الدرداء رضي الله عنه على رجل قد أصاب ذنبا والناس يسبونه، فلم يعجبه ما رأى من صنيعهم، وأراد أن يضيف إليهم من خبرته العميقة في الدعوة، قاعدة لم يبد له أنهم يعرفونها فقال لهم(لو وجدتموه في قليب، ألم تكونوا مستخرجيه؟قالوا: بلى.قال: فلا تسبوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم. فقالوا: أفلا نبغضه؟فقال: إنما أبغض عمله، فإذا تركه، فهو أخي)).
اللهم نسألك سؤال مُلحّ يرجو الإجابة أن تجعل ألسنتنا عفيفة، وقلوبنا مُحبة للمؤمنين، ربنا لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا واجعلنا ممن يتكلم إذا تكلم بالخير، وإذا نطق نطق بالخير. اللهم ارزقنا صفاء القلوب ، ونقاء السرائر، اللهم اغـفر لنا ما قدّمنا وما أخّرنا، وما أسـررنا وما أعلـنا، وما أنت أعلم به منّا , أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت.