ملاحظات حول أزمة الهوية الإسرائيلي
جلال الدين عز الدين علي
باحث في الشئون الإسرائيلية – القاهرة
________________________________________
يمكن تناول مسألة أزمة الهوية الإسرائيلية في سياقين متكاملين: داخل الكيان الإسرائيلي، وآخر خارجي يتعلق بطبيعة توجهه الإقليمي ودوره الإستراتيجي.
تداعي البنية الصهيونية
تبدو الصهيونية التي هزمتنا نحن العرب والمسلمين في جولات كثيرة من الصراع وأقامت دولة استيطانية معادية وعميلة للاستعمار رغم أنوفنا، وكسبت منا معارك، قد شاخت وتداعت في نهاية القرن العشرين، بل ويرى البعض أنها انتهت بمجرد نجاحها في تحقيق هدف إقامة دولة إسرائيل. ويؤكد مآل الداخل الإسرائيلي حقيقة تداعي الصهيونية من زاوية أخرى، وهي تداعي البنية الصهيونية التقليدية ممثلة في المؤسسات الصهيونية العتيدة التي أقامت الدولة، مثل: الكيبوتسات والأحزاب الصهيونية، وتشظي البنية السياسية- الاجتماعية في العقود الأخيرة وخاصة عقد التسعينيات، مع هزيمة الصهيونية كإطار جامع ومعمم للهوية، أو للرؤية الأحادية للهوية، وهذا شأن داخلي يمكن تفسيره بالتمردات الكثيرة من قبل الأقوام الإسرائيلية، التي فُرِضت عليها الصهيونية -كمشروع غربي- رؤيتها في إطار استراتيجية بوتقة الصهر، متجاهلة التعدد القائم في البنية الاجتماعية الإسرائيلية.
وفي الانتخابات التي جرت في 1996 و1999 بدت بوضوح شديد حالة المجتمع الإسرائيلي الراهنة، وملامح البنية الجديدة غير الصهيونية التقليدية، حيث تراجع الوزن النسبي للحزبين القطريين الصهيونيين العمل والليكود بشكل ملحوظ، نسبة إلى الأحزاب الأخرى التي ارتفع تمثيلها بشكل واضح أيضًا، تعبيرًا عن تمثيلها لهويات فرعية إسرائيلية وجدت في قانون الانتخاب المباشر لرئيس الوزراء وفصل انتخابات رئاسة الوزراء عن انتخابات الكنيست فرصة للانسلاخ من الحزبين القطريين الصهيونيين -اللذين سادا الاستقطاب الداخلي على مدى نحو ربع القرن، منذ 1977 (سنة صعود الليكود إلى السلطة لأول مرة وهزيمة حزب العمل) - والانخراط في أحزاب تعبر عن تلك الهويات التي كانت مكبوتة، وتبرز التعددية الاجتماعية السياسية الإسرائيلية.
وعلى هذا الأساس ازداد تصويت العرب داخل إسرائيل للأحزاب العربية، وتصويت الروس للأحزاب الروسية، وتصويت اليهود المغاربة لشاس. وهذه القوى الثلاث الأخيرة الصاعدة ليست لها دوافع صهيونية، وبعضها معاد حتى للصهيونية.
- فالعرب ويمثلون نحو 900 ألف نسمة معادون للصهيونية قوميًا ودينيًا وسياسيًا، ويرون في قيام إسرائيل نكبة عربية، ويطالبون، فيما يطالبون به، بتغيير العلم والنشيد الإسرائيليين لأنهما لا يعبران عنهم كمواطنين في الدولة، وقد بلغ تمثيلهم 14 عضو كنيست عقب انتخابات 1999 منهم 4 أعضاء ينشطون من داخل أحزاب صهيونية (إسرائيل واحدة: 2 ، الليكود: 1، ميرتس: 1).
- والروس، أو بالأحرى السوفيتيون سابقًا، لم يهاجروا إلى إسرائيل لدوافع أيديولوجية، ولا دينية يهودية فأكثر من 60% منهم ليسوا يهودًا، وعلى طرف نقيض مع المؤسسات والقوى الدينية، ولكنهم هاجروا إليها لتحسين أوضاعهم المعيشية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وتدهور الحال الروسية، ويشكلون مجتمعًا روسياً داخل المجتمع الإسرائيلي، له إعلامه الإذاعي والصحفي والتليفزيوني الناطق بالروسية، ونوادٍ ثقافية روسية، ويضعون لافتات روسية على المحلات.. إلخ، ويبلغ تمثيل الحزبين الروسيين إسرائيل بعالياه وإسرائيل بيتينو 6 مقاعد و 4 مقاعد من مقاعد الكنيست على الترتيب.
- واليهود المغاربة (ويمثلون 500 ألف نسمة) – كجزء متميز من اليهود الشرقيين في إسرائيل (حوالي نصف اليهود هناك) – ليسوا فقط معادين للصهيونية، سواء على أساس ديني في مواجهة الصهيونية العلمانية، أو على أساس ثقافي حضاري باعتبارهم ممثلين لما قبل الحداثة في مواجهة الصهيونية كمشروع حضاري حداثي غربي، ولكنهم انتقلوا خطوة أبعد من ذلك العداء للصهيونية إلى سلبها وملئها بمضامين دينية، وهو عكس ما فعلته الصهيونية في البداية عندما سلبت المضمون الديني لكلمة صهيون، والعودة إلى أرض الميعاد، وغير ذلك، ووظفته في مشروع سياسي عميل للإمبريالية هو الصهيونية، فما تفعله شاس الآن هو سلب الأسطورة الصهيونية وملؤها بمضمون ديني لتديين المجتمع، أو على أقل تقدير لاتخاذ ذلك المطلب المبالغ فيه وسيلة للمحافظة على الطبيعة الدينية لجمهورها، وتحقيق مطالبه الاجتماعية الاقتصادية، ولذا نجد الحاخام إيلي سويسا يقول صراحة: "الصهيونية قيمة دينية وليست قيمة علمانية"، والحاخام أرييه درعي يقول: "الصهيونيون الحقيقيون هم الذين يحافظون على شرائع التوراة" ، والحاخام عوفاديا يوسف يكفر القضاة العلمانيين ومن يتوجه إلى المحاكم العلمانية، ويصف المهاجرين السوفييت سابقًا بالأغيار. ونواب شاس - كالعرب في إسرائيل- لا يقفون عندما يغني نشيد "الأمل" في الكنيست، أو يتركون القاعة. ويبلغ تمثيل هذا الحزب في الكنيست 17 مقعدًا، أي أنه ثالث قوة برلمانية وسياسية بعد تحالف إسرائيل واحدة (26مقعدًا)، والليكود (19 مقعدًا).
أما الأحزاب التي رفعت لواء الصهيونية في الانتخابات الأخيرة فقط فشلت في الوصول إلى الكنيست رغم أن نسبة الحسم لا تتجاوز 1.5% من الأصوات، ومن ذلك تسوميت، والطريق الثالث، أو فقدت كثيرًا من قوتها مثل الحزب الديني الصهيوني (المفدال من 9 إلى 5 مقاعد)، ناهيك عن تمزق الليكود وانسحاب كتل منه، انضمت إلى أحزاب جديدة كحزب الوسط، أو حتى شاس.
لكل هذا يمكن القول إن بنية إسرائيلية جديدة آخذة في التبلور، وتعكس بوضوح تعددية الأقوام والهويات الفرعية في المجتمع الإسرائيلي، بعد أن زالت قبضة الصهيونية ولم تعد تقدر على احتواء التناقضات الداخلية.
ولذلك فإن هناك اتجاهًا إسرائيليًا متناميًا يعلن صراحة نهاية الصهيونية، ويدعو إلى تبني هوية "إسرائيلية"، هكذا، لا يهودية ولا صهيونية، ولكن أن تصبح إسرائيل دولة مثل بقية الدول وحسب، وتحتوي هويات مواطنيها على اختلافهم بما في ذلك غير اليهود وغير الصهيونيين (عربًا وروسًا ومتدينين)، باعتبار أن ذلك هو الحل الأمثل لكي لا تسقط الدولة في أيدي المتدينين في النهاية إذا تم تغليب العنصر اليهودي للهوية مع ضعف الصهيونية العلمانية!
التوجه الإقليمي والدور الاستراتيجي
إن ذلك التحليل البنيوي الداخلي لا ينفصل عن السياقات الخارجية، وشيوع ظاهرة ما بعد الحداثة، والاقتصاد الليبرالي والعولمة، ومن هنا تبرز حقيقة وضع إسرائيل كدولة تابعة لا تنفصل عن سياق المشروع الغربي، فمن التدين إلى الحداثة إلى ما بعد الحداثة، ومن التعاونية والاشتراكية (الكيبوتستات والموشافات والهستدروت) إلى الليبرالية (الخصخصة والاندماج في السوق الحر)، ومن النظام الحزبي البرلماني إلى النظام الرئاسي أو شبه الرئاسي (فصل انتخابات رئاسة الوزراء عن انتخابات الكنست)، ومن المركزية (الحزبين القطريين الصهيونيين) إلى التعددية، نقلات تعكس بوضوح تحول إسرائيل اقتصادًا وسياسة واجتماعيًا وثقافة من السمات الأوربية والتقليدية القديمة التي ميزت الصهيونية، إلى الاندماج في الأمركة في مختلف المجالات السابقة واتخاذ صيغة ما بعد حداثة تعددية ونسبية وموضوعية إلخ.
بيد أن هذه الصيغة الإسرائيلية للهوية هي إطار بحاجة إلى مضمون وتوجه، لا يمكن تحديده إلا من خلال موقع إسرائيل ودورها الاستراتيجيين، وهنا تبدو أمام هذه الهوية ثلاثة بدائل كما يتضح من الجدل الداخلي هناك هي:
- البديل الشرق أوسطي، وهو بديل صعب بسبب تعثر عملية تسوية الصراع العربي – الإسرائيلي، وعدم الاستعداد المتبادل للعرب والإسرائيليين للدمج والاندماج، بسبب العوائق الحضارية والسياسية والاستراتيجية.
- البديل المتوسطي، وهو بديل لا يقل غموضًا ولا يصلح هوية لأحد، فشتان ما بين دول المتوسط من حيث الديانات (مسلمون ومسيحيون ويهود) ، والقوميات، واللغات (عربية وعبرية وفرنسية وإيطالية ويونانية.. إلخ). وهو تعبير عن التنافس الأوربي – الأمريكي مما يصعب على كل المنخرطين في هذا البديل تبنيه بدون مخاطرة.
- وأخيرًا البديل الأطلسي، وهو وحده البديل المنسجم مع طبيعة إسرائيل الصهيونية كدولة وظيفية التي لا تستطيع تجاوزها، وحيث تشابه النموذجين الاستيطانيين الإسرائيلي والأمريكي، وتتبع خطى الأمريكيين بنيويًا، ناهيك عن تغلغل النمط الأمريكي في إسرائيل أكثر من غيرها في الثقافة والعلم ونمط الحياة بشكل عام -مع وجود تحديات لهذا النمط نابعة من اتجاهات الأصولية اليهودية والاتجاهات الإسلامية والقومية العربية- حيث تلتقي السمات والمصالح الأمريكية والأوربية.
والأطلسية هنا لا تعني فقط النموذج الأمريكي كنموذج حضاري مادي وما بعد حداثي للهوية، ولكنها أيضًا دور وسلوك مرتبطان بحلف الأطلسي رأس حربة النظام الدولي الجديد، الذي تتكامل فيه المكونات الغربية الأوربية والأمريكية. ولذا تجد إسرائيل مكانها الطبيعي في هذا الإطار كانتماء حضاري ودور ووظيفة في إطار المشروع الغربي. وقد أصبحت إسرائيل، بشكل علني، عضوًا مراقبًا في برلمان حلف الأطلنطي منذ عام 1994.
أما البديل الكنعاني، أي صبغ إسرائيل الصهيونية بديباجات قديمة لتسويغ مساندة اليهود لها، مثل إحياء اللغة العبرية، واتخاذ رموز يهودية قديمة، واعتبارها الهيكل الثالث وما إلى ذلك، فقد فشلت في التطبيق العملي كإطار للهوية، ولم تستطع إسرائيل أن تثبت أنها عبرية بالمعنى الحضاري للكلمة، رغم أنها تتخذ العبرية لغة رسمية أولى. وليس غربيًا أن نجد هناك دعوات للاهتمام بالترجمة داخل إسرائيل بين اللغات العربية والروسية والإنجليزية والعبرية، لأن المبدعين يبدعون بلغاتهم الأصلية وليس باللغة العبرية التي تعتبر لغة التعامل الرسمي، وليست لغة إبداع المبدعين.
ما هي دلالة تلك البدائل بالنسبة إلينا؟
إن إسرائيل، كما يرى الدكتور عبد الوهاب المسيري مثلا، لا تشكل تهديدًا حضاريًا لنا، لأنها لا تمثل حضارة، ولكنها جزء من الحضارة الغربية والمشروع الاستعماري الغربي، ومن هنا تكمن خطورتها، ويجب مقاومتها في هذا السياق الشامل.
وبالنظر إلى بدائل الهوية والدور المطروحة سابقًا (الشرق أوسطية والمتوسطية والأطلسية) تتجلى بوضوح هذه المقولة، فكل هذه المشروعات مشروعات غربية لتفكيك النظام الإقليمي العربي، وهو يكتسب قيمة أكبر بكثير من القيمة القومية، باعتباره الجامع الأخير للمنطقة العربية بعد زوال الخلافة الإسلامية، وباعتبار هذه المنطقة قلب العالم الإسلامي. وإذا كان وجود إسرائيل في ذاته تفكيكا وإذلالا لهذه المنطقة العربية – الإسلامية، ونظامها الإقليمي، فإن تلك المشروعات هي مشروعات هدم لهذا الكيان. والتهديد هنا لا يكمن في إسرائيل والصراع العربي – الإسرائيلي، فإسرائيل والصراع العربي – الإسرائيلي ليسا أكثر من مدخل مهم لتغلغل النظام الدولي برأس حربته الأطلنطية، في النظام الإقليمي العربي، وبقية أجزاء الأمة المسلمة. وهذا هو ما يجب مواجهته، ووضع الدور الإسرائيلي في سياقه العام.
تتعرض منطقتنا ونظامنا العربي وأمتنا الإسلامية لهجوم أطلنطي (أوربي – أمريكي) كاسح قد لا تساهم فيه إسرائيل الآن كثيرًا بضربات مباشرة، لأن الساحة مفتوحة أمام الولايات المتحدة لتقوم بهذه الضربات المباشرة بلا حياء ولا حرج: في العراق وأفغانستان والسودان وليبيا، وأية دولة أخرى تشذ عن السياق المفروض، ولكن ذلك لا يعني أن المشاركة الإسرائيلية الحربية غير قائمة ولا محتملة حتى في حال التسوية والانسحاب من الأراضي المحتلة في 1967 والجنوب اللبناني. ويكفي في هذا السياق افتعال عملية تسوية واستمرارها لعقد أو أكثر من الزمن لتؤتي ثمارها المُرَّة ليس في صورة اتفاقيات تضيع الحقوق العربية، وتربط الدول التي تعقد تلك الاتفاقيات بأطر شرق أوسطية ومتوسطية تابعة بشكل أو آخر للأطلنطية، ناسخة وهادمة للانتماء الأصيل للعروبة والإسلام وللمصالح الاستراتيجية للأمة، وحسب، ولكن أيضا في صورة اختلافات وتناقضات في الصف العربي حول تلك التسوية التي لا يعلم إلا الله إلامَ تسير، وعمَ ستسفر. وهذا بذاته إنجاز مهم لإسرائيل والأطلنطي في تفكيك النظام الإقليمي العربي وعملية هدمه.
ولذا فإن على من يتحدث عن السلام والتطبيع مع إسرائيل والشرق أوسطية والمتوسطية أن يتساءل السؤال الصحيح والأهم: هل يستطيع أن يحقق السلام مع حلف الأطلنطي؟